العهد البرتغالي
ثانياً: حضارة الإمارات في عهود القوى الغربية بمنطقة الخليج
كان التجّار المسلمون، منذ ظهور الإسلام حتى القرن السادس عشر، يسيطرون على تجارة الشرق برًّا وبحراً. وكان أهالي البندقية يحظون بالجزء الأكبر من تلك التجارة المرموقة التي ملأت البحر الأحمر من البرّ إلى موانئ البحر الأبيض المتوسّط، بينما كان أهالي جنوا يحصلون على الجزء الأصغر منها. وفيما بدأت جنوا بعد عام 1381م بالانحدار، استمرّت البندقية تتمتّع بسيادتها كقائد بحري في البحر الأبيض المتوسّط دون منافس. لقد أدّى وصول البرتغاليين إلى المحيط الهندي عام 1498م إلى خفض التدفّق التجاري إلى البحر الأبيض المتوسّط، ما أثّر سلباً في البندقية والقوتين المتنافستين: مصر وتركيا أيضاً.
استوحى البرتغاليون طموحاتهم في القرن الخامس عشر- المتمثّلة بالنشاطات التجارية والعسكرية- من روح الاستكشاف لديهم، إضافة إلى مهمّتهم في نشر الديانة المسيحية؛ تلك النشاطات مهدّت الطريق أمام مزيد من التوسّع والاستعمار. ومهما يكن، فقد دفعت رغبة التاج البرتغالي للسيطرة التامّة على التجارة المرموقة في المحيط الهندي، ولاسيّما تجارة التوابل، ونزعها من قبضة التجّار المسلمين الذين كانوا يسيطرون عليها. كان أهالي شبه جزيرة أيبيريا الذين يتّسمون بالشجاعة وحبّ المغامرة، أوّل شعب أوروبي يدخل المحيط الهندي، والخليج العربي؛ لموقعهم الجغرافي المميّز، وتطوّر صناعة بناء السفن لديهم.
بدأ التوسّع والانتشار البرتغالي في المحيط الهندي بحملاتهم في ساحل إفريقيا الغربي جنوب الصحارى؛ للحصول على السلع والعبيد. وقد مثّلت رحلة “بارتولوميو دياس” حول رأس جنوب إفريقيا خلال عامي 1487-1488م ، العمل قبل الأخير من سلسلةٍ من الأحداث التاريخية. وفي الوقت نفسه تقريباً، كانت البرتغال قد حصلت من “بيدرو دا كوفيلهام” الذي قام برحلتين لاستكشاف وتفحّص التجارة في المحيط الهندي، على معلومات حيوية وأساسية عن مدى ثراء النظام التجاري في المحيط الهندي والخليج العربي. وخلال قيامه برحلته الثانية من القاهرة إلى الخليج العربي، زار هرمز وعدن وجدّة، وأرسل إلى البرتغال تقريراً مفصّلاً عن التجارة في المحيط الهندي.
افتتح الرحالة الاستكشافي الشهير فاسكو دا غاما الطريق البحري إلى الهند عام 1498م، برحلته البارزة حول رأس الرجاء الصالح، ونزوله في ميناء “كاليكوت” الهندي. وقد أدّت تلك الحادثة الفريدة إلى إحداث ثورة على التجارة الشرقية، وتزويد المحيط الهندي والخليج العربي بالقوى العسكرية، وتثبيت سيطرة البرتغاليين هناك. وربّما كانت تلك الحادثة التي عملت على فتح الطريق التجاري البحري إلى الهند الوحيدة من نوعها، إذ لم يجرِ خلال العصور الوسطى حادثة مشابهة لها تأثير بعيد المدى في العالم المتحضّر. ظلّت التجارة البحرية من الهند عبر الطرق التجارية في الخليج، والبحر الأحمر، حتى اليوم في سيطرة العرب. لقد نجح العرب منذ زمن بعيد في المحافظة على تلك العلاقة التجارية المربحة دون توقّف، كما كان البحّارة البارزون في ذلك الوقت من عمان والإمارات الساحلية. وكان المحيط الهندي والخليج العربي – في تلك الفترة – ممرّاً بحريًّا آمناً وخالياً من السلاح، إذ لم تكن الجماعات التجارية تتوق أبداً إلى السيطرة العسكرية.
وما لبث أن اتّضح حصر إستراتيجية البرتغال في المحيط الهندي والخليج العربي باحتكار التجارة فيها، وهذا يعني العمل على تدمير الطور التجاري الإسلامي الذي كان يشكّل فترة مميّزة، والسيطرة بالتالي على الطرق التجارية باحتلال الموانئ الإستراتيجية. كانت رحلة “دا غاما” قد رفعت من مكانة البرتغال حتّى إنّ الملك مانويل الأوّل حصل على لقب”سيّد الغزوات والبحار والتجارة في الحبشة، وشبه الجزيرة العربية، وفارس، والهند” وعزم على هدم وتدمير السيادة العربية التجارية بإرسال قوّة مسلّحة. لقد حدث اتباع البرتغاليين لأسلوب البحر الأبيض المتوسط التجاري والأساليب الحربية برّاً وبحرا،ً مباغتة وبشكل مفاجئ كليًّا لأهالي المنطقة.
تميّزت فترة دخول البرتغاليين وإنشاء الإمبراطورية البرتغالية “إيستادو دا إنديا” Estado da India في أقاليم آسيا البحرية، في القرن السادس عشر، بثلاث مراحل؛ فقد شقّوا طريقهم في المرحلة الأولى من عام 1500م وحتى نهاية حكم ألفونسو دي ألبوكيرك عام 1515م، للوصول إلى المحيط الهندي وخليج عمان، وثبّتوا أنفسهم هناك بقوة السلاح، أما المرحلة الثانية والتي دامت من عام 1515م وحتى نحو عام 1560 م، فقد توصّلت خلالها النيابة الملكية في جوا إلى أوج قوّتها البحرية، كما تمكّنت من وضع احتكار نصفي في تجارة التوابل قيد التنفيذ. لقد سعى البرتغاليون، بواسطة سلسلة من المستوطنات المحصّنة في المحيط الهندي، يساندها دورية بحرية منتظمة، إلى تعزيز احتكارهم للتجارة بإلزام التجار المحليين شراء تصاريح مرور لضمان سلامتهم “كارتاز Cartazes “من “إيستادو دا إنديا” Estado da India ودفع الرسوم الجمركية. وخلال المرحلة الأخيرة من الانحدار، واجه البرتغاليون مقاومة أهلية طبيعية ومنافسة خارجية من قوى أوروبية أخرى.
شهدت العقود الأولى من القرن السادس عشر تأسيسَ الإمبراطورية البرتغالية، بعزم واحد من قبل لشبونة للسيطرة على أكثر الموانئ تحقيقاً للربح في شرق إفريقيا، وملبار، وكنكان، والخليج، ومضيق ملقا؛ ففي عام 1507م استولى ألبوكيرك على سوقطرة، لتصبح قاعدة لسدّ الطريق عن البحر الأحمر، ومن ثمّ حوّل كلّ اهتمامه إلى هرمز، التي تسيطر على مدخل الخليج العربي، لانتزاع كلا هذين الطريقين التجاريين المهمين من قبضة المسلمين. ومنذ عام 1507م، تمكّن البرتغاليون من تشديد الخناق على تجارة عمان البحرية، حين سيطروا على عدة موانئ ومدن تجارية هامة في الخليج وتشمل جلفار (إمارة رأس الخيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة) وخصب، إضافة إلى المدن الساحلية الواقعة بين رأس الحدّ وشبه جزيرة مسندم، وتشمل موانئ: صور، وقريات، ومسقط، ومطرح، وسيب، وصحار، وخورفكان، ودبا، وليما.
وفيما رحّبت قلهات- الواقعة على ساحل عمان- بألبوكيرك، أبدت كلّ من قريات ومسقط مقاومة ضدّه، ما جعلهما تتعرّضان لعمليات السلب والنهب؛ ورغم أنّ صحار كانت محميّة بحصون وأبراج كبيرة وضخمة إلاّ أنها استسلمت دون مقاومة من جانبها. من ناحية أخرى لقيت مدينة خورفكان -وهي مدينة في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وكانت آنذاك ميناءً يمتاز بالازدحام والازدهار- مصيرَ مسقط نفسه. فقد استُوليَ على المدينة وحرقت بحيث لم يتبقّ فيها أيّ مبانٍ قائمة، كما تعرّضت النساء والأطفال إلى الأسْر، وقُتل العديد من الرجال. وصف ألبوكيرك خورفكان بأنها “مكان كبير جدًّا”، وأنّها مدينة تحتوي على منازل جيدة، كان يعيش فيها عدد كبير من تجّار الهند الأغنياء، وكان هناك أيضاً إسطبلات كبيرة تحتوي على الخيول التي كانت تصدّرها إلى الهند. وفي داخلها أراضٍ وممتلكات كثيرة عليها منازل مبنية بشكلٍ جيّد، وكان فيها الكثير من أشجار الفاكهة والخضراوات، وفيها عدد كبير من بِرَك المياه التي كانت تستخدم لأغراض الريّ. وفي الميناء عدد من المراكب ذات ثلاث صوارٍ لصيد السمك، والشباك أيضاً.
كان وصول البرتغاليين إلى المنطقة نقطة تحوّل في تاريخ المحيط الهندي والخليج العربي لأكثر من سبب؛ فقد سعوا خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، إلى تثبيت سيادتهم التنفيذية في المحيط الهندي بإبعاد التجّار المسلمين، وفرضوا بوجود سفنهم البحرية المسلّحة نظام شراء تصاريح المرور البحرية “الكرتاز cartazes “على سفن التجّار المسلمين غير المسلّحة. لقد حدّد تحوّل التجارة الشرقية من أيدي عرب الخليج، الذين كانوا لقرون عديدة بارعين في التجارة البحرية وخوض البحار، بدايةَ الانحدار الاقتصادي في المنطقة. وعلى الصعيد الأوروبي تمكّن البرتغاليون من تحويل تجارة التوابل من المراكز التجارية الرئيسة التقليدية في الإسكندرية والبندقية إلى لِشبونة وأنتويرب لتوزيعها في سائر أنحاء أوروبا.
لعب البرتغاليون في الواقع دوراً مميّزاً ليس فقط في تحويل النظام التجاري في المحيط الهندي، بل من حيث ميزته الأساسية وتكوينه أيضاً، مما كان عليه بين عامي 600م و1500م. كان البرتغاليون قد استولوا على دَور الوسيط التجاري بين موانئ المحيط الهندي من أعضاء كانوا يمثلّون الطور الطبيعي الفطري في التجارة؛ وما لبثت أن تأثّرت مجتمعات العرب المحليين التجارية، والمجتمعات الأخرى في المحيط الهندي بتلك التحوّلات. وتحت تأثير انتهاكاتهم وسيطرتهم، تركت المجتمعات العربية التجارية في الخليج والساحل، حيث تراجعوا مؤقتاً نحو المناطق الداخلية، كما تعرّضت عدة مدن تجارية في عمان وسائر مدن الخليج العربي للانحدار.
أدّت عدة عوامل مشتركة خلال القرن السابع عشر، إلى إضعاف سيطرة البرتغاليين على الساحل العربي، ومن ثَمّ انحدار سيادتهم في الخليج، وكان استمرار مقاومة موانئ الخليج ضدّ الاحتلال البرتغالي وتشديد الخناق عليهم من المجتمعات الاقتصادية في المنطقة، من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ذلك، وقبل ذلك بكثير كانت قد قامت في عامي 1521م و1526م ، ثورتان رئيستان ضدّ سيطرة البرتغاليين عبر الساحل العربي، اشتركت فيهما كلّ من هرمز، والبحرين، وقلهات، وصحار، ومسقط. وفي عام 1602م، تمكّن شاه عبّاس الأوّل، حاكم فارس، من طرد البرتغاليين من البحرين، واستُوليَ على هرمز عام 1622م نتيجة عملية عسكرية إنجليزية – فارسية مشتركة. كان سقوط هرمز للبرتغاليين هزيمة رمزية لإمبراطورية البرتغاليين الهندية “إيستادو دا إنديا” .Estado da India
استولى الفرس في السنة نفسها، على خورفكان، ولكن ما لبث الأميرال البرتغالي راي فرير دا أندرادا أن طردهم منها عام 1623م، وبعد ذلك بفترة قصيرة تمكّنت قوة عربية بقيادة إمام اليعاربة الأوّل ناصر بن مرشد، من طرد راي فرير نفسه. لقد خَرَجَت مسقط وساحل عمان كليًّا من قبضة البرتغال نتيجة لقوة وطنية فرضتها نشأة تلك السلالة العربية الجديدة، وتمكّنت قوات اليعاربة عام 1633م بقيادة ناصر بن مرشد، من طرد البرتغاليين من جلفار ودبا كذلك، حيث كان البرتغاليون قد بنوا قبل ذلك، حصوناً وقلاعاً لهم، كما استعادوا صحار عام 1643م. وقد استمرّ القتال إلى أن استعيدت مسقط آخر معاقل البرتغاليين عام 1650م، تحت قيادة الإمام الجديد سلطان بن سيف. ومع نهاية القرن السادس عشر بدأت كلّ من بريطانيا وهولندا تبدي اهتماماً بإقامة روابط وعلاقات تجارية مباشرة مع الشرق، وكان وصول السفن البريطانية والهولندية في المحيط الهندي كمنافسين تجاريين لتحقيق السيادة على البحر، قد شكّل أكبر تحدٍّ كان على البرتغاليين أن يواجهوه في آسيا. لقد برهن هذا التنافس على المدى الطويل نهاية قوّتهم وازدهارهم الاقتصادي، وأدّى إلى انحلال وتمزيق إمبراطوريتهم الشرقية.
ورغم انحدار قوة البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، إلاّ أنّ سجلاتهم التاريخية وبعثاتهم تركت وراءها الكثير من الروايات حول تقدّمهم في الشرق، فثمّة الكثير من الوثائق المطبوعة منها والمخطوطة تلقي ضوءاً قويّاً على الشؤون العربية المحلية المعاصرة، كما تحتوي على معلومات مهمة عن الأماكن والأشخاص والأحداث المتعلّقة بدولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة، وتعتبر رحلات “بيدرو تيكسيرا” The Travels of Pedro Teixiera، النصَّ الجغرافيَّ الرئيس خلال النصف الأوّل من القرن السابع عشر. كانت الإشارة الوحيدة لأم القيوين في القديم قد ظهرت فقط في كتاب بالبي الجواهري البندقي، وفي كتاب “دوارت باربوسا” الذي أشار إليها باسم “مالقويهون” .Malquehoan وظلّ البرتغاليون لمدة قرن ونصف تقريباً يفرضون سيادتهم المطلقة على الخليج، ولكنّهم في الوقت نفسه ورغم مواجهتهم تحديات كثيرة، واجهوا تحدياً كبيراً من الغزو العثماني من الشرق الأوسط.
لقد شكّل التنافس القائم بين العثمانيين وبين الصفويين الفرس -الذين كان البرتغاليون قد أقاموا سياسة من التعاون المشترك معهم ضدّ العثمانيين – عائقاً كبيراً أمامهم لطرد البرتغاليين طرداً دائماً من الخليج العربي أو المحيط الهندي. وبقيام ثورة اليعاربة في بداية القرن السابع عشر، تحرّرت عمان أخيراً من سيطرة البرتغاليين.
جلفار أشهر المناطق المعروفة جيداً في المنطقة، تظهر ظهوراً بارزاً في كثير من الوثائق الأوروبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأكثرها أهمية الروايات المجيدة عن هذه المدينة، الميناء، في الوثائق والروايات البرتغالية. ويعتبر كتاب “دوارت باربوسا” The Book of Duarte Barbosa من أقدم المصادر التي ورد فيها وصف جلفار على أنّها “مكان كبير جداً فيها العديد من الناس والأعيان والملاّحين الذين كانوا يعملون في صيد “الجفار” أو اللآلئ الصغيرة والعديد من اللآلئ الكبيرة التي كان تجّار هرمز يقصدونها لشراء تلك اللالئ”. بعدئذٍ كان قد أشير في المصدر نفسه إلى جلفار أو “راكويما” Racoima -رأس الخيمة حديثاً- على أنّها “مكان كبير جداً”.
أشار الرحّالة البرتغالي “بيدرو تيكسيرا” إلى صناعة اللؤلؤ في جلفار حين كتب يقول: إنّ أسطولاً مكوّناً من خمسين مركباً كان يبحر من هناك في شهري يوليو وأغسطس من كل عام لصيد اللآلئ على شواطئ قطر والبحرين. وأضاف قائلاً: إنّه قد نُسِب إلى جلفار نوع من اللآلئ كان يُعثَر عليه في المياه الإقليمية. لقد ورد في كتاب “دي باروس” Decades بيانات تفصيلية عن العائدات والنفقات في هرمز تحت الاحتلال البرتغالي، كما أشار إلى أنّ منطقة جلفار كان تدفع مبلغ 7500 “أشرفي” وهو أكبر مبلغ دفعته آنذاك. وهناك أيضاً مواصفات ورسومات قديمة لعدد من الحصون البرتغالية التي أُسِّسَت في دبا، والبدية، وخورفكان، وكلبا التي هي حاليًّا أجزاء من دولة الإمارات العربية المتحدة.