العهد الهولندي
حصل الهولنديون على امتياز في ميناء “المخا” اليمني على ساحل البحر الأحمر لفترة ما، إلاّ أنّ النجاح الذي حقّقوه مع الإنجليز في الخليج مقارنة بالبحر الأحمر، أكبر بكثير منه في الخليج. كانت خسارة البرتغاليين لـ “هرمز” عام 1622م، بدايةً لدخول الهولنديين والإنجليز الأسواقَ الشرق أوسطية لتكثيف تجارتهم في البصرة وغمبرون (بندر عباس)، وأصبحت بندر عبّاس في المئة والخمسين عاماً التالية مركزاً للنشاطات التجارية والسياسية الهولندية والبريطانية والفرنسية في الخليج. كان الهولنديون قد اكتسبوا في البداية معقلاً لهم في الخليج نتيجة لأعمالهم المشتركة مع البريطانيين، ولكن سرعان ما قويت المنافسة بين الدولتين عندما نقلت شركة الهند الشرقية الإنجليزية وكالتها في الخليج إلى بندر عباس بعد عام 1622م؛ وقد رفض الهولنديون دفع الرسوم الجمركية لهم، ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت المحطة التجارية الهولندية في بندر عباس أكثر نشاطاً ونجاحاً من الإنجليز، وبَدَؤوا يتاجرون بالسكّر، والتوابل والأقمشة القطنية الهندية، والنحاس والحديد، في منطقة الخليج.
أبرم الهولنديون اتفاقية مع الشاه الفارسي عباس الأوّل عام 1623م تتعلّق بتجارة الحرير، حصلوا بموجبها على حقّ التجارة الحرّة على الجانب الفارسي من الخليج مقابل شراء كمية محدّدة من الحرير سنويًّا من الملك. وإضافة إلى مركزهم الرئيس في بندر عباس، كان لدى الهولنديين عدد قليل من المكاتب الصغيرة عادة في أصفهان، وأحياناً في مواقع أخرى مثل: لار، وكيرمان، وبوشهر، وشيراز. ونتيجة لتجارتهم بالسلع الفارسية وخاصة الحرير بين عامي 1623 و1630، حقّقت شركة الهند الشرقية الهولندية أرباحاً هائلة، ما جعل التجارة الفارسية في ذلك الوقت أكثر ربحاً من أي وكالة هولندية أخرى في المحيط الهندي باستثناء باتافيا. وخلال القرن السابع عشر، كانت مكاتبهم الأخرى في البصرة ومسقط تمثّل أهمية اقتصادية ثانوية، ولم يكن فيها أحد من العاملين إلاّ خلال موسم التجارة.
لقد أصبح الهولنديون مع بداية القرن السابع عشر القوة البحرية السائدة في المحيط الهندي والخليج العربي. كان الفرس قد سمحوا للهولنديين والبريطانيين بممارسة التجارة في بلادهم، لأنّهم توقّعوا المساعدة العسكرية في توسيع نطاق طموحاتهم للسيطرة على المنطقة وفرض سيادتهم عليها؛ وبذلك التزم الإنجليز والهولنديون بتحالف من نوع معيّن مع فارس، كما اعتمدت مصالحهم الاقتصادية في الخليج على المزايا التجارية التي حصلوا عليها وضمنوها من فارس.
استمرّ نشاط شركة الهند الشرقية الهولندية VOC التجاري – بعد أن حقّقت استقلالها عن إسبانيا عام 1648م – نحو مئة عام من الأعمال التجارية والازدهار والنجاح دون التعرّض لأي إزعاج. كانت سيطرة العرب على مسقط بعد تحريرها من أيدي البرتغاليين عام 1650م حادثة أخرى لصالح الهولنديين، وقد أدّى وصول عدة سفن من هولندا إلى وكالتهم في غمبرون – بعد ذلك بفترة قصيرة – إلى مزيدٍ من أعمالهم التجارية جعلهم يتفوّقون مؤقتاً في تجارة الخليج. في غضون ذلك – وبينما كان الهولنديون على خلاف مع الفرس حول تجارة الحرير كما كانوا يسعون إلى التملّص وتجنّب دفع الرسوم- تلقّوا عرضاً من سلطان بن سيف، إمام مسقط، على الأرجح، لتغيير الطريق التجاري كليًّا، وكانت تلك الخطة تقضي بنقل البضائع بواسطة القوافل من قطيف- وهي منطقة ساحلية تقع شمال قطر، في طريق موازٍ للساحل عبر المناطق التابعة لبني ياس وبني خالد إلى ميناء معيّن خارج سيطرة البرتغاليين، إلاّ أنّ رئيس الوكالة الهولندية رفض ذلك العرض.
ومع اشتعال الحرب الإنجليزية الهولندية في أوروبا عام 1652م، فقد الإنجليز وكالاتهم التجارية في الخليج العربي في بندر عباس والبصرة لصالح الهولنديين، وأصبحت شركة الهند الشرقية الهولندية VOC بحصولها على تلك الوكالات، المزوّد الرئيسَ للتوابل في بلاد فارس والخليج العربي، حيث حقّقت نجاحاً تجاريًّا ملموساً هناك. وفي عام 1666م كان لشركة الهند الشرقية الهولندية VOC مقرّ في مسقط لفترة قصيرة من الزمن. وتؤكّد سجلاّت السِّلَع الواردة إلى بلاد فارس والخليج أنّ الهولنديين كان لهم دورٌ كبير في التجارة الآسيوية. لقد تمكّن الهولنديون مع حلول منتصف القرن السابع عشر، من طرد شركة الهند الشرقية من الجزء الأكبر من الخليج العربي، ومع حلول عام 1680م ثبّتوا أقدامهم في البصرة وبندر عباس.
وصل الهولنديون إلى المحيط الهندي لتأكيد حرية الملاحة في أعالي البحار، ودحضوا القرارَ البابوي بجعل المحيط الهندي في سيطرة البرتغاليين. وقد استمرّت شركة الهند الشرقية الهولندية VOC وشركة الهند الشرقية الإنجليزية – كالبرتغاليين من قبل- تلجأ إلى استخدام القوّة وسيلة للحصول على اتفاقيات تجارية وحقوق للوكالة في موانئ المحيط الهندي، كما أنّهم اتبعوا نظام البرتغاليين في إصدار تصاريح عبور “للحماية” لتسهيل تحقيق طموحاتهم التجارية على حساب المجتمعات التجارية المحلية في المحيط الهندي. لقد اتبع التجار الهولنديون والإنجليز نظام التجارة بين الموانئ، إضافة إلى تجارة التصدير التي كانت متبعة في المحيط الهندي، والتي أدّت بدورها إلى تصدير كميات هائلة من البضائع التجارية إلى الأسواق الأوروبية. وقد أدّى هذا الازدهار الناجم من التجارة إلى الدخول في عهد جديد في هولندا عُرف بـ”العهد الذهبي” والذي شهد على مدى النجاح الشامل والنموّ على صعيدي الفنون والصناعات اليدوية. وعلى الجانب الآخر، انحدرت العمليات التجارية البعيدة في الخليج ما أدّى إلى نهاية عهد مدن عُمان والخليج العربي التجارية القديمة، وإلى نهضة مدنٍ جديدة مثل مسقط، وبندر عباس، وبوشهر.
لقد ضعفت قوة الهولنديين، نتيجة للحرب الثلاثية التي قامت بينهم وبين الإنجليز والفرنسيين، مع حلول الخمسينيات من القرن الثامن عشر، ففقدوا بذلك معظم ممتلكاتهم ومستنداتهم التي كانت بين أيديهم في معظم أنحاء المحيط الهندي باستثناء الأرخبيل الإندونيسي، وضعفت سيطرة الشركة الهولندية VOC في الخليج على وكالاتهم في بوشهر وبندر عباس والبصرة نتيجة لمنافسة البريطانيين، ولزيادة الضرائب التي فرضها عليهم حاكم بوشهر، والعلاقات المتدهورة مع السلطات العثمانية. فكان أن أغلق الهولنديون تلك الوكالات عام 1753م.
ولكنّ الهولنديين حاولوا – بعد إغلاق تلك الوكالات الثلاث – المحافظةَ على مكانتهم في الخليج العربي ، فاحتلّوا جزيرة خَرْج التي قدّمها لهم مير ناصر من قبيلة الزعاب حاكم بندر رق العربي، وعمل الهولنديون على تقوية مكانتهم هناك بتشييد حصن ووكالة لهم، كما سيطروا على النشاطات الاقتصادية المختلفة التي كان يقوم بها السكّان العرب المحليون والتي تشمل صيد اللؤلؤ. وقد أدّت تلك النشاطات إلى مقاومة السكّان العرب المحليين بقيادة مير مهنا الذي نجح في تحرير جزيرة خَرْج من أيدي الهولنديين عام 1766م وتعتبر تلك الحادثة الأولى في تاريخ عرب الخليج يشار إليها في إحدى الصحف والتي تشير أيضاً وللمرّة الأولى إلى شيخ عربي. كان انتصار مير مهنا تحديداً لنهاية وجود الشركة الهولندية المتحدة VOC في الخليج العربي، إلاّ أنّ التجار الهولنديين ظلّوا يمارسون الأعمال التجارية بين المؤسّسات الهولندية في آسيا والخليج، واستمرّت أيضاً سفن النقل تبحر بكثرة بين مسقط وملابار الهولندية.
لم يؤدّ ظهور الأوروبيين في المحيط الهندي والخليج العربي إلى إحداث تغيير جذري في بناء التجارة الشرقية وتحوّلها فحسب، بل إنّه أضاف الكثيرَ أيضاً على الصعيدين التاريخي والجغرافي في الموضوع. وقد عملت السجلات الكثيرة لدى الشركات الهولندية والإنجليزية على إثراء المعلومات والمواد التوثيقية التي تركها البرتغاليون. ومع أنّ هذه الوثائق كانت تتناول بدرجة رئيسة النظام التجاري المعمول به في المحيط الهندي، لكنها كانت تحتوي أيضاً على مواصفات مفصّلة لمجتمع المنطقة ونظام الحكم فيها. فالوثائق الهولندية تشكّل أهمية خاصة لتاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة؛ إذْ إنها تزخر بالمعلومات النفيسة التي لا تقدّر بثمن حول مجموعة مختلفة من المواضيع المتعلّقة بالمنطقة. لقد ظهر اسم جلفار (رأس الخيمة) في وثيقة هولندية يعود تاريخها إلى عام 1634م ضمن نصّ يشير إلى عرض لتقديم المساعدة إلى العرب الذين كانوا يقاتلون البرتغاليين هناك وفي مسقط أيضاً. وتؤكّد المذكّرة التي يعود تاريخ كتابتها إلى عام 1646م، أنّ ساحل شبه الجزيرة العربية كان له دوره في نقل البضائع بحراً إلى مسافات وأنحاء بعيدة، وتشير تلك المذكّرة إلى وصول سفينة من جلفار إلى البصرة محمّلة بالسكّر.
وثمة روايات مهمّة موجودة في الوثائق الهولندية تتعلّق ببروز الحكم القاسمي؛ فقد ورد ذكر الشيخ رحمة بن مطر على أنّه أمير جلفار بعد عام 1718م بقليل؛ عندما برز دوره في حصار جزيرة هرمز، كما أشير إليه مرة أخرى عام 1728م كأحد أغنى وأكثر التجّار العرب نفوذاً وكحاكم لجلفار. وبعد ذلك بسنوات عديدة أكّدت الوثائق الهولندية أنّ نادر شاه قد اعترف بالشيخ رحمة على أنّه الحاكم الشرعي والوريث لجلفار 1740. وقد وصف تيدو فريدريك فان كنيبهاوزن – المقيم في وكالة شركة الهند الشرقية الهولندية في جزيرة خرج- جلفار على أنّها “مدينة كبيرة، محصّنة على الطراز المحلي، وأنها مزوّدة ببعض المعدّات الحربية، وتسكنها قبيلة من “الهولة” تدعى القواسم. وأضاف في تقريره أنّ إمام مسقط نفّذ عدة حملات على هذا المكان من قبل، ولكنّها باءت جميعها بالفشل، وذلك بسبب عدم مقدرته للقيام بأيّ شيء ضدّ شيخ القواسم الذي يدعى تشافل أو رحمة بن مطر، الذي كان يسانده عدة قبائل من البدو أو عرب الصحراء. والشيخ رحمة هذا هو في الوقت الحالي الأقوى بين حكّام الهولة، فلديه قوة من أفراد شعبه يبلغ عددهم 400 رجل مسلّحين بالبندقيات اليدوية المعروفة بـ”أم فتيلة” في صور التي فيها ميناء جيّد حيث تتمكّن السفن الكبيرة من الرسو فيها، كما أنّ هناك أكثر من 60 سفينة معظمها كبيرة ومزوّدة جيّداً، كانت تبحر حتى ميناء مخا”.
لقد أصبح الهولنديون في الربع الأوّل من القرن السابع عشر، أفضل الجامعين والمحرّرين للخرائط والبيانات البحرية والكتب المتعلقة بالإبحار، إذ أسهم ذلك إسهاماً كبيراً في رسم خرائط الخليج. وتشير الأطالس البحرية والبيانات والرسومات والخرائط التي جمعها سادة القرن السابع عشر ونشرتها دور النشر الهولندية الشهيرة، إلى أنّ الهولنديين تولّوا مركز القيادة حتى عام 1675م، وتحتوي الرحلات الاستكشافية القديمة التي قام بها الهولنديون خلال منتصف القرن السابع عشر إلى المناطق الداخلية من الخليج وعبر شبه جزيرة مسندم عدةَ إشارات مهمة إلى المدن والموانئ الواقعة في دولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة وعمان. وتعود أهمية الحملات القائمة إلى شبه جزيرة مسندم إلى أنّها تقدّم أوّل وصف مفصّل عن المنطقة. وفي فترة (1644-1645م) قامت السفينة الهولندية “زيميو” Zeemeeuw وتعني النورس باكتشاف ساحل الخليج الجنوبي بين خصب ودبا. ويعتبر الرسم الذي رسمه قائدها القبطان كليس سبيلمان لخليج دبا وللمدينة، أحد أقدم الرسومات لموقع في دولة الإمارات العربية المتحدة الحديثة. وقامت السفينة القديمة “ميركات” بقيادة القبطان جاكوب فوجيل برحلة من غمبرون إلى مسقط عام 1666م، وبعد هذه الرحلة كتب تقريراً مفصّلاً عن كلّ ما شاهده عبر الساحل بين خصب ومسقط، كما ترك رسماً وخريطة لخليج مسقط، وكذلك أشير إلى كل من دبا وخورفكان والبدية وكلباء ضمن الأماكن الأخرى، وأضيف إليها معلومات أخرى مفصّلة عن أسلوب الحياة فيها. وتؤكّد الإشارات المهمّة إلى جزر أسفل الخليج ضمن سجلاّتهم أنّ البحارة الهولنديين قد اكتشفوا جزيرة طنب، أما جزيرة أبو موسى فقد ورد ذكرها أوّلاً في خريطة هولندية عام (1645-1646م)، على حين ورد ذكر جزيرة صرّي القريبة منها لدى البحارة الهولندييين عام 1646م. وفي إبريل 1651م وصف القبطان بوداين من يخت Popkensburg رحلاته بين جزر طنب الكبرى، والصغرى، وأبوموسى.