العهد البريطاني
تأسّست شركة الهند الشرقية عام 1600م، وانحصرت أعمالها في البداية عام 1616م في ممارسة الأعمال التجارية في بلاد فارس عبر جاسك. وفي العام التالي أسّست وكالتين في المناطق الداخلية الواقعة في شيراز وأصفهان. وفي عام 1617م حصلت الشركة على مرسوم “فرمان” من الشاه عباس، ملك الفرس، يمنحها احتكارَ تجارة الحرير من الموانئ الفارسية. وقد افتتح ممثّلو الشركة وكالتهم الأولى في ساحل الخليج عام 1623م في بندر عباس “غمبرون” على ساحل فارس الجنوبي، إثر الانتصار الفارسي البريطاني على البرتغاليين عام 1622م. تحوّلت بعد ذلك تجارة هرمز إلى بندر عباس فأصبحت بذلك المقرّ الرئيس للنشاطات التجارية البريطانية في الخليج للسنوات المئة والخمسين التالية.
بدأ ازدهار الثروات البريطانية المحدودة مع انحدار تجارة الهولنديين؛ إلاّ أنّ التنافس الإنكليزي- الفرنسي على السيادة في الهند والخليج قد أدّى إلى فترة من عدم الاستقرار والثبات. وقد نتج من الاضطرابات السياسية والتغيّرات السلالية المستمرّة في بلاد فارس خلال النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، تعرّض مكانة البريطانيين في بندر عباس- والذين كان اهتمامهم الرئيس محصوراً في التجارة- إلى المزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار. وفي عام 1763م، فتحت الشركة “مقرّاً لإقامة” مسؤول بريطاني في بوشهر؛ وقد تمكّنوا – تحت إشراف “المقيم البريطاني”- من احتكار الموارد الصوفية إلى بلاد فارس، لإبعاد الدول الأوروبية الأخرى. كان ذلك بداية لفترة مِئَتَي عام تقريباً من السيادة البريطانية على الصعيدين التجاري والسياسي في المنطقة بعد انهيار مكانة البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين كما أنّها حدّدت بداية المقيمية السياسية البريطانية في الخليج.
منذ أواخر القرن الثامن عشر فصاعداً حلّت شركة الهند الشرقية محلّ الوكالات التابعة للشركة شبكةٌ معقّدة من المقيميات والوكالات التي أصبح دورها الرئيس سياسيًّا كليًّا، إذ حُصِرت أهدافهم الرئيسة في حماية البحر والطرق البرية إلى الهند، وحماية المصالح الاستعمارية البريطانية من تدخّل القوى الأوروبية الأخرى الآخذة بالنموّ. وقد أُنشئت بين عامي ( 1763 – 1947م) المقيميات والوكالات في بوشهر ومسقط، والبصرة وبغداد، والبحرين والكويت والشارقة، وحوفظَ عليها.
أدّى سقوط سلالة الصفويين في إيران وانهيار اليعاربة في عمان إلى حالة من الفوضى والاضطرابات، ثمّ إلى فراغ سياسي في الخليج، وذلك في العقود الأولى من القرن الثامن عشر. وقد بدأت الجماعات العربية البحرية التي فرَّتْ منذ قرن خلال النظام البرتغالي هناك، بالنزوح والهجرة من المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية وعُمان إلى الساحل واستئناف نشاطاتها التجارية فيه. وقد أصبحت المواقع الجديدة التي استقرّت فيها النواةَ والمركزَ الرئيس لدول الخليج العربية الحديثة. في أوائل القرن الثامن عشر، كان كلّ من القواسم واتحاد بني ياس وسلالة آل بوسعيد وعاصمتهم مسقط، يمثّل الحركات السياسية الثلاث البارزة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية. ومع مرور الوقت، أصبح القواسم – وقاعدتهم الرئيسة رأس الخيمة – تجّاراً ناجحين وحازوا السيادة بين القبائل في المنطقة كاتحاد قوي جدًّا. لم يكن هناك مَن يُنافسهم في المنطقة، ولبعض الوقت تمكّنوا من السيطرة على المناطق النائية التابعة لرأس الخيمة. وكان لديهم موانئ على جانبي الجهة الجنوبية من الخليج، في الشارقة ورأس الخيمة ولنجه ولافت وباسيدو.
لم يكن الخليج خلال تلك الفترة آمناً؛ فقد بدأ القواسم يتحدّون السيادة العمانية في البحر؛ لانتزاع نصيب أكبر من التجارة الخليجية والهندية والإفريقية التي نتج منها صراع بينهم وبين حكام آل بوسعيد لكسب السيادة والتفوّق. ونتيجة لمخاوف البريطانيين من هجوم فرنسي محتمل على ممتلكات شركة الهند الشرقية، أقاموا تحالفات مع حاكم مسقط وشاه فارس. وقد نشأ نتيجةً لتزويد عمان بالأسلحة والذخيرة، صراع مع القواسم حول المصالح، فقد كان هؤلاء ينظرون إلى البريطانيين بكثير من الشك لأسباب سياسية واقتصادية ودينية. ولما أيقن البريطانيون أنّ القواسم يهدّدون السلام البحري والطرق التجارية البحرية التابعة لهم، أبدوا رغبتهم الخاصة في السيطرة على الطرق التجارية البحرية الواقعة بين الخليج والهند، والتي أدّت إلى تفاقم الخلافات بينهم. وفي عام 1806م توصّل البريطانيون والقواسم إلى اتفاقية “القلنامة”، وبموجبها اتفق الطرفان على إقامة السلام بين الجانبين واحترام كلّ طرف رعايا الطرف الآخر وممتلكاته. ويمكن القول: إنّ تلك الاتفاقية “القلنامة” كانت تشكّل بداية العلاقات البريطانية الرسمية مع المنطقة التي تكوّن حاليًّا دولة الإمارات العربية المتحدة، إلاّ أنّ أعمال الهجوم على الملاحة البريطانية- رغم إبرام تلك الاتفاقية- لم تستمرّ فحسب بل كانت تزداد تدريجيًّا.
كانت السلطات البريطانية خلال السنوات الأولى من تورّطهم في شؤون الخليج، قد تبنّت الاعتقاد الخاطئ بأنّ القواسم كانوا يمثّلون السبب الرئيس لكافة الأعمال غير القانونية القائمة في البحر؛ ولذلك قاموا بحملات ضدهم وضدّ حلفائهم أيضاً. لكنّ أعضاء طبقة المسؤولين العليا قد تراجعوا عن ذلك الاعتقاد. وفي عام 1809م وقع هجوم على رأس الخيمة -وهو ميناء القواسم الرئيس- وعلى لنجه ولافت وغيرها من قواعد القواسم على الساحل الفارسي، واستمرّت المنازعات من حين لآخر، وأخيراً دُمِّرت رأس الخيمة عام 1819م نتيجة حملة بريطانية بحرية ضدّها، وبعد سقوطها تحوّلت الحملة إلى موانئ أخرى، حيث دُمِّرت الحصون والمعاقل والسفن الكبيرة في فشت، والشارقة وأم القيوين، وعجمان. لقد أزال إخضاع رأس الخيمة آخر الآثار لأيّ تحدٍّ للسيطرة البريطانية على مياه الخليج. وفي عام 1820م أبرم البريطانيون معاهدة السلام العامة مع شيوخ عرب الساحل، وافق الحكام بموجبها على وقف الأعمال العدوانية في البحر نهائيًّا، وفرضوا –أيضاً- حظراً على بناء السفن الكبيرة، وتشييد التحصينات عبر الساحل، وإضافة إلى كلّ ذلك تضمّنت المادة التاسعة من هذه المعاهدة أوّل إشعار مدوّن ضمن معاهدة رسمية بإنهاء تجارة العبيد. لقد منحت بنود تلك المعاهدة البريطانيين الحق في ضبط الأمن في بحار أسفل الخليج، وحدّدت نقطة تحوّل للمصالح البريطانية في المنطقة.
افتتحت اتفاقية عام 1820م عهداً من العلاقات الرسمية بين بريطانيا ودول الخليج، وأمناً عامًّا على نطاق واسع، رغم عدم اكتماله بأي شكل من الأشكال. كانت الشروط العامة التي وُضِعَت في معاهدة عام 1820م، قد عملت على تكوين أسس كافة الاتفاقيات اللاحقة بين بريطانيا العظمى ومشيخات الساحل. لقد وضعت السلطات البريطانية السياسةَ التي كان يجب اتباعها تجاه الدويلات العربية كنظام “للسيطرة الثابتة المقرونة بالتعاملات الودية”، وحدث ذلك بقليل من التغيّرات في الفترة المتبقّية من ذلك القرن. كان المقيم السياسي في بوشهر مسؤولاً عن شؤون المنطقة كلّها، رغم أنّ المصطلح المتّبع “المقيم السياسي” لم يكن يُستخدم قبل منتصف القرن. وفي عام 1822م طُلب منه في بوشهر أن يقوم بدراسة النظام السياسي في الخليج، وإعادة تقارير الأنباء المفصّلة إلى رؤسائه. وتلا ذلك تأسيس “الوكالات المحلية” في موانئ عربية معيّنة لتمثيل البريطانيين، والحصول على قنوات الاتصال مع شيوخ الساحل. وفي العشرينيات من القرن التاسع عشر كان يوجد “وكلاء محلّيّون” في كلٍّ من: مسقط، والشارقة، والبحرين على الجانب العربي، وأيضاً في: لنجه، وشيراز، وأصفهان، وموغو في بلاد فارس.
ظهرت بعض النتائج الإيجابية بعد عام 1820م من ارتفاع نسبة تجارة اللؤلؤ، وغياب الهجمات على النقل البحري الأجنبي، إلاّ أنّ المعاهدة رغم ذلك لم تؤدّ إلى وقف تامّ للحروب بين القبائل العربية في البحر؛ ولهذا السبب قام البريطانيون عام 1835م بإقناع حكام أبوظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان للتوقيع على صلحٍ بحريّ تُمنع فيه كافّة الأعمال العدوانية والحروب في البحر في موسم الغوص. وما لبث شيخ أم القيوين أن وقّع على تلك الاتفاقية في السنة التالية. ومنذ العشرينيات من القرن التاسع عشر، كان المقيم السياسي يقوم بجولة سنوية إلى الجانب العربي من الخليج، وبعد عام 1836م أصبحت تلك الجولة أكثر ضرورةً وأساسية أيضاً، إذ كانت تستهدف تجديدَ الصلح البحري لعام 1835م. وفي السنوات الثماني عشرة التالية، كان هناك سلسلة من معاهدات الصلح البحرية شبيهة بتلك القائمة عام 1835م، وقد نُفِّذ صلح مدّته عشر سنوات عام 1843م وبدأت القوّات البحرية الهندية بحراسة مغاصات اللؤلؤ ومراقبتها كل عام، إلاّ أنّ الاضطرابات أصبحت بعد عام 1843 م نادرة ومحدودة.
وبعد انتهاء صلح عشر السنوات وافق الشيوخ -بتوصيات من المقيم السياسي- على إقامة صلح دائم في البحر، وفي عام 1853م، وُقِّع على معاهدة السلام البحري الدائمة، وافق الشيوخ بموجبها على وقف تامّ للأعمال العدوانية في البحر، وعلى إقامة “صلح بحري تام… ودائم”. كان دور البريطانيين محدوداً اقتصر على الأمن البحري؛ ومن هذا المنطلق لم يكن لديهم الرغبة في التدخّل بشؤون المشيخات الداخلية. ونتيجة لهذا الصلح، أصبحت المنطقة معروفة في الوثائق البريطانية السياسية بـ”الساحل المتصالح” كما كان يشار إليها أيضاً “بعمان المتصالح”. من ناحية أخرى قامت الحكومة البريطانية بإبرام أربع معاهدات مختلفة مع شيوخ الساحل المتصالح خلال أعوام ( 1838م، 1839م، 1847م، 1856م)، للقضاء على تجارة العبيد التي كانت آخذة في الازدياد رغم شروط معاهدة عام 1820م، وقد حقّقت تلك المعاهدات المختلفة تحسّناً في الوضع. ومع إنشاء خطوط ومحطات للبرق عام 1864م في مناطق مختلفة في الخليج، أو قربه، حصل البريطانيون على ضمان خطّي من شيوخ الساحل المتصالح لحمايتهم؛ وذلك بإضافة مادة إلى الصلح البحري الدائم لعام 1853م.
كانت بريطانيا في أوج قوّتها في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر عندما دخلت قوّات جديدة الساحةَ شكّلت تحدياً لسيادتها غير المتنازع فيها في عمان المتصالح. وخلال تلك الفترة قام الأتراك بمحاولات متكرّرة لتثبيت سلطتهم على الساحل العربي، بينما أبدى الفرس اهتمامهم بالسيطرة قليلاً على الساحل المتصالح. كذلك دفعت النشاطات الفرنسية في مسقط وعلى الساحل المتصالح خاصة خلال السنوات القليلة التالية، الحكومةَ البريطانيةَ للدخول في اتفاقيات مانعة مع مشيخات الخليج. لقد ألزمت الاتفاقيات المانعة لعام 1892م شيوخ الساحل المتصالح بعدم الدخول في اتفاقيات أو إجراء اتصالات مع أية قوة أو دولة أخرى عدا الحكومة البريطانية. ومقابل ذلك تعهّد البريطانيون بتحمّل مسؤولية الدفاع عن الإمارات من أيّ عدوان خارجي. لقد مثّلت الاتفاقيات المانعة آخر طبقة في بناء المعاهدة التي أنشأها البريطانيون في الخليج في القرن التاسع عشر، كما استمرّت حجر الزاوية للسيادة البريطانية في الخليج حتى انسحابهم من المنطقة عام 1971م.
كانت منطقة الخليج قد أصبحت في فترة: ( 1892 – 1914م) مسرحاً للمنافسات المكثّفة بين القوى والدول الأوروبية. فقد سعى كل من الفرنسيين والألمان والروس للحصول على حرية مشاريعهم التجارية، فتحدّوا حقّ بريطانيا باعتبار الخليج “بحيرة بريطانية”. إضافة إلى ذلك كان تورّط الفرنسيين في تجارة الأسلحة في المنطقة قضيّةً ذات اهتمام خاص عند البريطانيين. وفي عام 1902م تمكّنت السلطات البريطانية من انتزاع ضمان من زعماء الساحل المتصالح بمنع استيراد الأسلحة من مناطقهم المختلفة وتصديرها. وفي السنة التالية قام اللورد كيرزون نائب الملك في الهند بزيارة إلى المنطقة؛ لإظهار السلطة والسيادة ردّاً على زيارات السفن الحربية الروسية والفرنسية لها. وكان قد عُقد اجتماعٌ كبير في الشارقة على متن السفينة “أرغونوت” Argonaut – وهي أكبر سفينة تظهر في الخليج قبل الحرب العالمية الأولى- أعلن فيه اللورد كيرزون بكلّ صراحة -بحضور جميع زعماء الساحل المتصالح- أنّ الحكومة البريطانية قد أصبحت تمارس السيادة المطلقة لحمايتهم وأنّ زعماء الساحل المتصالح ليس لهم أيّ علاقة بدول وقوى أخرى. إضافة إلى ذلك صرّح أنّه رغم أنّ السياسة البريطانية التي تقضي بعدم التدخّل في شؤونهم الداخلية، إلاّ أنّ القتال بين الحكّام برًّا، ليس مقبولاً بسبب القيود المفروضة على الحروب البحرية؛ لأنّها توازي إلغاء روح المعاهدة التي قد وُقِّعت. وقد حقّق البريطانيون انتصارهم بمزيج من الدبلوماسية والإكراه، كما ضمنوا اعترافاً رسميًّا بسيادتهم في المنطقة، وبتفوّقهم على الفرنسيين والروس والألمان والعثمانيين.
كانت منطقة الخليج خلال القرن التاسع عشر مهّمة للبريطانيين في إستراتيجيتهم الدفاعية في الهند؛ فالسياسة البريطانية تقضي بتحقيق السلام والمحافظة عليه في البحر والقضاء على تجارة العبيد بالقوة، ولكن عدم تورّط الحكومة في الشؤون الداخلية للإمارات لم تكن ذات فائدة للمنطقة. ومع إهمال قضية التعليم والعمل على تحسين وضع السكان المحليين عامة، نشأ جوّ من عدم التفاهم ومن الكراهية الفطرية. ومع نهاية القرن بدأ موقف البريطانيين وقراراتهم في التغيّر تدريجيًّا؛ لتفاعل العديد من القوى والعوامل؛ فقد شهدت السنوات التالية للحرب العالميّة الأولى عدة تغيّرات اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة على الساحل المتصالح انعكست ضمن ردود فعل الحكّام والشعب تجاه السياسة البريطانية. وأدّى انتشار التعليم على الساحل، ونموّ القومية العربية في المنطقة، وتوقّعات اكتشاف النفط إلى حثّ بريطانيا على إبداء اهتمام أكبر بالشؤون المحليّة.
كان تدخّل بريطانيا في شؤون الدول المتصالحة الداخليّة كبيراً خلال السنوات الواقعة بين الحربين العالميتين؛ فقد حصلت “الخطوط الجوية الملكيّة البريطانية” على حقّ الهبوط في الشارقة مع حلول عام 1932م، وفي السنة نفسها أسّست محطة لاسلكي على الساحل، وبعد ذلك بفترة حصلت على تسهيلات لتعبئة الوقود، وعلى مرسى بحري من شيخ دبي، بينما سمح شيخ أبوظبي لهم -بعد إقناعه- بتأسيس مقرّ للهبوط في جزيرة صير بني ياس، وآخر بالقرب من أبوظبي. وعلى الجبهة الإداريّة، كان تحويل مسؤوليات المقيم السياسي في بوشهر -الذي لم يعد قادراً على التعامل بكلّ كفاءة مع شؤون الساحل المتصالح- إلى الوكيل السياسي في البحرين “انتقالاً تاريخيّاً للمصالح البريطانيّة في الخليج من الساحل الفارسي -حيث استمرّت أكثر من قرن واحد- إلى الجانب العربي”. وبعد الحرب العالميّة الثانية بدأت بريطانيا تلعب دوراً داخليّاً أكثر فعاليّة مع بداية الوكالة السياسيّة في الشارقة والتي تحوّلت فيما بعد إلى دبي عام 1953م. وتشجّع الشيوخ لأن يقبلوا بنصيحة ومساعدة الوكيل السياسي.
كانت أهم حادثة عملت على تغيير مكانة المشيخات المتصالحة في الإستراتيجيّة البريطانيّة، توقيع امتيازات النفط منذ الثلاثينيّات من القرن العشرين؛ فقد قدّمت توقّعات اكتشاف النفط وإنشاء طريق جويّ على الساحل المتصالح بُعداً جديداً في الاعتقاد البريطاني عن الخليج. وفي وجه التنافس الناشئ بين قوى أجنبيّة أخرى، حصلت بريطانيا على تعهّدات من زعماء الساحل المتصالح لتحويل سلطتهم وسيطرتهم لمنح امتيازات النفط في مناطقهم إلى الحكومة البريطانية، وأيضاً عدم منح الأجانب امتيازات مصرفيّة. ونتيجة للتوقيع على تلك الاتفاقيات المتعلّقة بامتيازات النفط، أصبح من الضروري تعيين الحدود غير المرسومة قبل ذلك، والتي أدّت إلى انفجار المنازعات القائمة بين القبائل، وأصبحت حاسمة بعد الحرب العالميّة الثانية خاصّة؛ فأصبح للبريطانيين منذ خمسينيات القرن العشرين يدٌ في تعيين الحدود ورسمها؛ لضمان متطلّبات حماية شركات النفط التي كانت تقوم بأعمال التنقيب في المناطق الداخليّة من الإمارات المتصالحة.
تحوّلت أهميّة الإمارات المتصالحة مع بداية إنتاج النفط وتصديره في بداية الستينيات، ضمن الإستراتيجية البريطانية تحوّلاً دراماتيكيًّا. ومع أنّ البريطانيين غادروا الهند عام 1947م، لكنّ الإمارات المتصالحة ظلّت منطقة حيوية للمصالح البريطانية الاستعمارية من خلال ممارستهم لحقّهم الخاص. وقد أدّى ذلك بدوره إلى تحوّل أساسي في السياسة البريطانية التقليدية من عدم التدخّل إلى تدخّل فعّال في الشؤون المحليّة. وفي عام 1951م أسسّ البريطانيون دورية عمان المتصالح -كشّافة ساحل عمان فيما بعد- كقوة حافظة للسلام وللمساعدة في اكتشاف النفط في الداخل، ولعبت تلك القوات دوراً بارزاً عام 1955م في النزاع القائم بين أبوظبي والمملكة العربية السعودية في أزمة البريمي. وفي عام 1952م تأسّس مجلس الإمارات المتصالحة، وهو مجلس استشاري يتألّف من حكّام الإمارات السبع، لدفع فكرة الاتحاد بينهم، ليُصبح في عام 1965م “مجلس الإمارات المتصالحة التطويري”. وقد وسّع المجلس نشاطاته لتشمل المصالح الداخليّة، وعمل على تصعيد عمليّة التطوير في المنطقة. وفي غضون اجتماعاتهم المتعدّدة، تمكّن الشيوخ من إيجاد قضيّة مشتركة مهّدت الطريق أمام قيام دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971م.
أدّى ظهور النفط في أبوظبي عام 1962م، ثمّ في دبي والشارقة، إلى أن تحتلّ المنطقة مكانةً بارزة في الشؤون الاقتصادية والسياسية العالمية. وقد واكبَ التطوّرَ السريع والتحديث الذي أحدثه ثراء النفط، تطوّرٌ داخلي مهم هو الرغبة في الاتحاد بين الإمارات، التي أصبحت فيما بعد أقوى وأشدّ بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية بدايةَ عام 1968م نيّتَها للانسحاب من الخليج مع نهاية عام 1971م. وفي 30 نوفمبر 1971م، انسحب البريطانيون من الإمارات المتصالحة، وكان ذلك الانسحاب نهاية لسيادة العهد البريطاني في المنطقة. ومن الجدير ذكره أنّ “الإمارات المتصالحة كانت أوّل منطقة عربية تفرض بريطانيا سلطتها عليها عام 1820م، وآخر منطقة تتركها عام 1971م”.